محمد الديسطي عضو نشيط
المشاركات : 243
| موضوع: سلسلة مقالات : إصلاح الأغلاط الشائعة في اللغة العربية (3) الإثنين يونيو 24, 2013 6:19 pm | |
| سلسلة مقالات : إصلاح الأغلاط الشائعة في اللغة العربية (3) (*)
نعود الليلة إلى موضوع الكلام في الأغلاط الشائعة في اللغة العربية , وقد وقفنا الكلام في المحاضرة إلى تصحيح بعض كلمات حكم عليها ظلماً بأنّها غير صحيحة , و بقيت عهداً طويلا طريدة منبوذة تأباها أقلام الكاتبين , و تنفر منها أسماع المعلمين . حتى رددنا إليها اعتبارها كما يقولون و رجعنا إلى أخواتها و أهلها بعد طول الغيبة و اشتداد النفرة , و عندي من هذا النوع كلمات كثيرة لا يزال المتحذلقون الواقفون عند عبارة المعجمات و ألفاظها يعتقدون أنّها خطأ و هي صحيحة فصيحة صريحة النسب . و المجلات قد فسحت صدورها لطائفة من المبتدئين الذين يرون أن أول مدارج الشهرة أن يخطئوا الناس فيما يقولون و يكتبون , ولو جاءوا في ذلك بالغثّ السّقيم؟ سأفرغ لهذا الموضوع في ليالٍ تجيء , و لكني سأطرفكم الليلة بكلمتين اثنتين من هذا النوع لمحض التسلية و الترويح , فإن النفس تميل إلى التنقل من حديث إلى حديث و هي ملول سئوم لا تصبر على طعام واحد.
الكلمة الأولى أيها السادة هي كلمة (كسول).
نشأت تلميذاً فطالبا ثم مفتشا و العلماء في كل هذه الأطوال وفي جميع هذه الأحوال يخيفونني من استعمال كلمة كسول , فيقولون : إياك أن تستعمل هذه الكلمة وصفاً للرجل , و إياك ثم إياك أن تقول : هذا رجل كسول , إنما يجب أن تقول : رجل كسلان و كَسِلٌ , فإذا كنت تعطف على هذه الكلمة بعض العطف , و أردت أن تعيد إليها أنفاس الحياة , فاجعلها للمؤنث و قل : امرأة كسول . هذا ما استقر في أنفس الأدباء و هذا ما يتحذلق به حذاق اللغويين منهم , و الويل ثم الويل لطالب وصف في مقاله أو كتابته رجلاً بأنّه كسول. هنا تقوم محاضرة لغوية طويلة الذيول موضوعها كسول و كسلان و كَسِل , و أن الأول منها خاص بالنساء و لا يجوز له أن يخطر بين الفحول
و السبب في هذا أنهم بحثوا عن هذه المادة في المعجمات فرأوا أن صاحب القاموس يقول : ((كسل كفرح, فهو كَسِل و كسلان , جمعه كسالى مثلثة الكاف , و كسالى بكسر اللام , كَسْلَى و هي كِسلة و كسلانة و كسولٌ و مكسال)).
رأوا هذا النص فقالوا : إن صاحب القاموس خصص كلمتي كسل و كسلان بوصف الرجل و خصص كلمة كسول بوصف الأنثى , و إذاً يجب أن تقول : رجل كسول , ثم أرادوا أن يزيدوا وثوقاً و إيمانا فوق إيمانهم , فأسرعوا إلى أكبر مرجع من مراجع اللغة و هو لسان العرب لابن منظور فرأوا فيه : كَسِل عنه بالكسر : كسيل و كسلان , و الجمع : كُسَالَى و كَسْلَى. قال الجوهري : و إن شئت كسرت اللام كما قلنا في الصحارى , و الأنثى كسلة و كسلى و كسلانة و كسول و مكسال. رأوا هذا أيضا السادة فزادوا يقيناً – كيف لا و صاحب اللّسان يقول : ((و الأنثى كسلة و كسلى و كسول! هذا معناه في رأيهم أن هذه الصفات الأربع جميعا خاصة بالمؤنث لا يتصف بها سواه , و لكن أين علم الصرف! أيها السادة ؟ و أين فقه اللغة ؟ و أين فنّ كتب اللغويين ؟ لا لا . لا يعنيهم من هذا شيء , هكذا قال صاحب القاموس و كفى , و هكذا قال ابن منظور و هو حسبهم. ليس الأمر كما تظنون أيها المتعجلون. إن علينا أن نفهم عبارة اللغويين و أن نستعين في فهمها بقبس من علم تصريف الكلام.
يقول علماء الصرف أيها السادة إن الوصف الذي على وزن فعول بمعنى فاعل لايوصف به المذكر , و إنما قال : إن المذكر و المؤنث يوصفان به على السواء من غير حاجة إلى تاء التأنيث عند وصف المؤنث. إذا علم الصرف يجيز لنا أن نقول : رجل كسول و امرأة كسول كما أجاز لنا أن نقول : رجل صبور و امرأة صبور . تعالوا بعد ذلك نفهم عبارة اللغويين على هذا الضوء و في هداية هذا القبس . ماذا قال اللغويون؟ قالوا : يقال للرجل كسِل و كسلان , هذا صحيح لا غبار عليه لأن هذين الوصفين خاصان بالمذكر , و لأنه لما كان الوصف كسولُ مشتركا بين المذكر و المؤنث لم يضعوه بين أوصاف المذكر , لأن البداهة تقضي بصحة أن يكون وصفا للمذكر لخلوه من تاء التأنيث , فلم يجدوا حاجة إلى ذكره فلما جاءوا لذكر أوصاف المؤنث قالوا : كَسِلة و كسلانة و كسول , لينصوا على صلاحية أن تكون كلمة كسول وصفا للمؤنث مع خلوها من التاء. و من هذا نرى أن اللغويين جروا على سنن تتسق مع العقل , فلم ينصوا على البديهي و نصوا على غير المألوف أو ما يصح أن يكون موضعا للشك , و الذي يدل على هذا أن كلمة كسول جاءت في شعر عربي وصفا للمذكر , و قد نقل هذا الشعر صاحب اللسان في معجمه , فالكلمة إذا لم تفته و لم يخف عليه مكانها و لو كان يعرف أنه أهملها في موضعها لعاد إليه و ذكرها فيه , و لكنه كما رأينا رأى ألا يضع الكلمة مع أوصاف المذكر , لأن صلاحيتها له من بدائه العقول . اسمعوا ما جاء في لسان العرب في مادة (زمل) : و الزميل الضعيف الجبان.
قال أُحَيحة :
و لا و أبيك ما يغني غنائي *** من الفتيان زمّيل كسول
و الكسول هنا أيها السادة من الفتيان لا من الفتيات !
الكلمة الثانية كلمة (وحيدة) :
ظهر بين المستعملين و اللغويين من يمنع وصف الأنثى بكلمة وحيدة , فلا يجيز أن يقال : فتاة وحيدة في الظرف , و لا : هذه المرة الوحيدة التي زرتك فيها . ماذا نقول يا سادتي ؟ إذاً يقولون : قل وحِدة يا فتى . فجربت أن أقول : هذه فتاة وحدة في الظرف , و هذه هي المرة الوحدة التي زرتك فيها , فلم أجد ذلك سائغاً في حلقي و لا في ذوقي ! من أين جئتم بهذا ؟ جئنا به من كتب اللغة ! فارجع إليها إن شئت. فرجعت إلى القاموس فرأيت صاحبه يقول : رجل وَحَد و أَحَد و وِحْد و وحيد و متوحد : منفرد, و هي وحِدة , فقالوا : ألم نقل لك إنه وصف المؤنث على وَحِدة و لم يقل وحيدة ؟ قلت : نعم هذا صحيح , و لكني أعرف من ناحية أخرى أن وحيدا بمعنى فاعل , أي : متوحد و أن كل فعيل إذا كان بمعنى فاعل لحقته تاء التأنيث قياسا , فأقول : كريم و كريمة , و عفيف و عفيفة , لا أحتاج إلى المعجمات . ثم إني أرعف من ناحية ثانية أن أصحاب المعجمات لا ينصون على ما كان قياسيا , و إلا صحبوا كل وصف لمذكر بمؤنثه , ثم أعرف من ناحية ثالثة أن اللغويين إذا رأوا أن العرب خالفوا القياس في كلمة سارعوا إلى التنبيه عليها فقالوا مثلا (ولا تقل وحيدة ) و لكن صاحب القاموس لم يفعل هذا و هو لم يذكر وحيدة لأن تأنيثها قياسيّ لا غبار عليه .
على أني حين أتمّ قراءة هذه المادة في القاموس نفسه أجده يقول بعد قليل : (( و الوحيدة من أعراض المدينة بينها و بين مكة )) إذا فالعرب قد نطقوا بكلمة الوحيدة و سموا بها مكاناً بين مكة و المدينة , و هو علم منقول من الصفة و لو كانت كلمة الوحيدة مخالفة للغتهم ما استطاعوا أن ينطقوا بها , و إذا يكون هؤلاء الذين يدعون على المعجمات إنما يتعجلون في الحكم و يتسابقون إلى الهدم من غير فقه أو تمحيص . هذا ما أردت التحدث فيه في هذه الليلة , أيها السادة , و سنستمر في تناول هذا الموضوع في محاضرات أخرى إن شاء الله و هو الموفق سبحانه .ص 234 / 236 من جارميات.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ (*)أذيع هذا الحديث من إذاعة القاهرة في 27/4/1938م.
| |
|