تَشْنيفُ الآذان بتقويم اللِّسان﴾
بقلم :
الشَّيخ الفاضل
نجيب جلواح الجزائري
حفظه الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على النبي الأمين و على آله و صحبه أجمعين أما بعد :
فقد اختصّتِ اللّغةُ العربيّةُ بخصائصَ عديدةٍ ، و لها مِيزاتٌ كثيرةٌ ، و إنّ مِن أعظمِ ما اختصّـتْ به أنّ اللهَ تعالى أنزلَ بها خيرَ كتبِهِ و أحسنَ شرائعِ دينِهِ ، فهي لغةُ القرآنِ الكريمِ ، قالَ اللهُ تعالى : ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [ يوسـف : 2 ]و قالَ أيضاً : ﴿وَ لَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا القُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾[ الزّمر : 27- 28 ] وقالَ : ﴿ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [ فصّلت : 3 ] وقالَ :﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَاإِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ﴾ [ الشّورى : 7 ] .
فارتباطُ الإسلامِ باللّغةِ العربيّةِ ارتباطٌ مَتينٌ ، لذا لا يمكنُ فصْلُ العربيّةِ عن الدّينِ ،لأنّ القرآنَ الكريمَ نزلَ بلسانٍ عربيٍّ مُبينٍ ، وسنّةُ نبيِّ الإسلامِ – عليهِ الصّلاةُ و السّلامُ -لا تُفْهَمُ و لا يُدركُ ما فيها مِن أحكامٍ إلاّ باللّغةِ العربيّةِ . و الإلمامُ باللّغةِ العربيّةِ و إتقانها ، و التّعمُّق في معرفةِ معانيها ، و التّبحُّر في إدراكِ مبانيها و أساليبها مِن أبرزِ أسبابِ صِحّةِ فهْم المسلمِ لدينِ اللهِ تعالى ؛ وذلك لأنّ ممّا يُتوصّلُ به إلى إدراكِ معاني النّصوصِ فَهْمَ العِباراتِ على ما وُضِعتْ له في أصلِها اللُّغويِّ لا بحسبِ ما يُمليهِ العقلُ وحدَهُ ، و لذلك كانتْ معرفةُ اللُّغةِ العربيّةِ مِن شروطِ الاجتهادِ ، و كان الجهلُ بها سبباً للْهَلَكَةِ .
و إنَّ مِن العلومِ النّافعةِ ، المتعدّيةِ إلى غيرها : عِلْمَ النّحْوِ ، فهو أُسُّ العُلومِ الشّرعيّةِ ، وأصلٌ مِن أُصولها ، فَبِهِ تُعرفُ مـدارِكُ الأحكامِ ، و بِهِ يَستقيمُ اللّسانُ و البَنانُ - نُطقاً و خَطّاً - . لذا يَنبغي لمن يريدُ التّفقُّهَ في الدّيـنِ ، أنْ يُقدِّمَ على ذلك تعلُّـمَ العلومِ العربيّةِ و علمِ النّحوِ .
و للهِ درُّ القائلِ :
النّحوُ يُصلِحُ مِنَ لِسانِ الألْكَنِ *** و المرءُ تُكرِمُـهُ إذا لم يَلْحَـنِ
و النّحوُ مِثلُ المِلـحِ إنْ ألقيتَـهُ *** في كلِّ ضدٍّ مِن طعامِكَ يحسُنِ
و إذا طلبتَ مِنَ العُلومِ أجلَّهـا *** فأجلُّهـا منها مُقيـمُ الألسُنِِِ [1]
و قدْ " هجمَ الفسادُ على اللّسانِ ، وخالطتِ الإساءةُ الإحسانَ ، و دخلتْ لغةَ العربِ ، فلم تَزلْ كلَّ يومٍ تنهدمُ أركانُهـا ، و تموتُ فُرسانُهَا ، حتّى استُبيحَ حريمُهَا ، و هَجُنَ [2]صَميمُهَا [3]، و عفّتْ آثارُهَا ، و طَفِئَتْ أنوارُهَا ، و صارَ كثيرٌ مِن النّاسِ يُخطِئُونَ وهم يَحسبونَ أنّهم مُصيبونَ . و باتتِ الحاجةُ ماسّةً إلى تحفيزِ الهِممِ إلى تقويمِ اللّسانِ ، و إصلاحِ اعوجاجِـهِ بِطلبِ العربيّةِ ، و فَهمِهَا و إتقانِهَا "[4].
إنّنا نشكُو - في هذه الأيّامِ – و أكثرَ مِن أيِّ وقتٍ مضَى ، منَ الضّعفِ العامِّ في اللّغةِ العربيّةِ ، و نتألّمُ ألمًا شديداً منَ الوضعِ المؤسفِ الّذي وصلتْ إليه لغتُنا و على أيدي أبنائِها ، و نتوجَّسُ خِيفةً من خطرِ هذا الضّعفِ الذي يزدادُ مـع مرورِ الأيّامِ ،و لو استمرَّ هذا الضّعفُ في اللّغةِ العربيّةِ مِن غيرِ عِلاجٍ ، لأدّى إلى استفحالِه ، ثمّ ينتهي الأمرُ بموتِ اللّغةِ و القضاءِ عليها .
و إذا أُصِبنا بضعفٍ في لغتنا ، ضعُفَتْ صِلتُنا بديننا ، لأنّنا نكون – حينئذ– قد فقَدنا أداةَ الاغترافِ مِن معينِهِ الصّافي ، و لهذا فإنَّ تقصيرنا في حقِّ هذه اللّغةِ تفريطٌ منّا ، نُسألُ عنه ، ونُدانُ به .
نَعَم ، إنّهُ لَمِنَ المُؤسِفِ جدّاً أنْ ترى - في هذا الزّمانِ - بعضَ طلبةِ العلمِ حينمـا يتكلّمُ أو يكتبُ ، تَجِدُ عنده مِـن الخطإِ و اللَّحنِ ما تكادُ تقولُ: إنّهُ في أوّلِ الدّراسةِ ، مع أنّهُ قد يكونُ ممّن حازَ الشّهاداتِ العاليةَ . كما قد تَسمعُ مِن بعضِهم خِطاباً في موضوعٍ ذِي أهميّةٍ ، لكنْ يُزهّدُكَ فيه ، و يَصرِفُكَ عن سماعهِ و الاستفادةِ منه ما شوّهه مِـنْ لحنٍ[5] و تصحِيفٍ[6]، فتسمعُه يرفعُ ما حقُّهُ النّصبُ ، و يجرُّ ما حقُّهُ الرّفعُ ، فتنقلبُ الأُمورُ على السّامعِ ، و يَفهمُ مِن كلامِهِ خِلافَ مُرادِه ؛ و هذه - و اللهِ - مِحنةٌ . لهذا يَتعيَّنُ على الطّلبةِ أنْ يَتعلّمُوا النّحـوَ ، و أن يُمَرِّنُوا ألسنتَهُمْ و أقلامَهُمْ عليه ، حتّى لا تَسُوءَ سُمعتُهمْ بين النّاس ، و يَسقطَ قدرُهم ، و يُوصَفوا بالجهلِ .
قالَ عبدُ اللهِ بنُ المباركِ - رحمهُ اللهُ - : " اللّحنُ في الكلامِ أقبحُ مِن آثارِ الجُدَرِيِّ في الوجهِ "[7].
و ما أحسنَ ما قيلَ :
و لا تَعْدُ إصلاحَ اللّسانِ فإنّهُ *** يُخبِّـر عمّا عنـده و يُبيِّنُ
و يُعجِبُني زَيُّ الفَتى و جمالُه *** فيَسقُطُ مِن عَيْني ساعةَ يَلْحَنُ[8].
واللّحنُ ضررُهُ وَخِيمٌ ، وخَطْبُهُ جسيمٌ ؛ فقد يؤدِّي بِصاحبِه إلى الكذبِ على اللهِ تعالَى ورسولِه صلّى الله عليه و سلّم ، والتّقوّلِ عليهما ؛ وكفَى بذلك جُرماً عظيماً و إثماً مُبيناً ؛ روى أبُو حاتمِ محمّدُ بنُ حِبّانَ البُسْتيّ عن الأصْمَعيّ أنّه قالَ : " إنَّ أخوفَ ما أخافُ علـى طالبِ العلمِ إذا لم يَعرفِ النّحوَ أنْ يَدخُلَ فيما قالَ النّبيُّ صلّى الله عليه و سلّم : " مَن كذبَ عليَّ متعمّداً فليتبوّأْ مقعدَهُ منَ النّارِ " ، لأنّهُ عليه الصّلاةُ و السّلامُ لم يكنْ لحّاناً ، و لم يلحَنْ في حديثِهِ ، فمهْمَا رَويتَ عنه ولحنتَ فيه ، فقد كَذبتَ عليه " [9].
و صاحبُ اللّحْنِ يُدخِلُ في الكتابِ و السُّنةِ ما ليسَ فيهما ، و يُخرِجُ منهما ما هو فيهما ، بخلافِ الفصيحِ ، فإنّه يقرأُ القرآنَ دون لحنٍ ، فيُقِيمُ حُروفَهُ و حُدودَهُ ، لذا كانَ أفضلَ حـالاً و أرْفعَ شأناً ؛ فعنْ سَلْمِ بنِ قُتَيْبَةَ قـال : " كنتُ عندَ ابنِ هُبَيْرَةَ الأكبرِ فجرَى الحديثُ حتّى جرَى ذِكرُ العربيّةِ فقالَ : واللهِ ما استوَى رَجُلانِ دينهُما واحدٌ ، و حَسَبُهما واحدٌ ، ومُروءتُهما واحدةٌ ، أحدُهما يَلْحنُ و الآخرُ لا يَلْحنُ ، إنّ أفضلَهُما في الدّنيا و الآخرةِ الذي لا يَلْحـنُ ، قُلتُ : أصلحَ اللهُ الأميرَ ، هذا أفضلُ في الدُّنيا لِفضلِ فصاحتِهِ و عَربيّتِهِ ، أرأيتَ الآخرةَ ما بالُهُ فُضِّل فيها ؟ قـالَ : إنّهُ يقـرأُ كتابَ اللهِ على ما أنزلَهُ اللهُ ، و إنّ الذي يَلْحنُ يحمِلُهُ لحنُهُ على أنْ يُدخِلَ في كتابِ اللهِ تعالى ما ليسَ فيه ، و يُخرِجَ منه ما هو فيهِ . قالَ : قلتُ : صـدقَ الأميرُ و برَّ "[10].
و أكثرُ مَن ضلَّ مِن أصحابِ الفِرقِ المنحرفةِ ، و مَن زاغَ من المبتدعةِ وأهلِ الأهواءِ ، إنّما أُتوا من جهلِهـم باللّغةِ العربيّةِ ؛ ففسَّروا النّصوصَ تبعاً لأهوائِهم ، وفهمُوا القرآنَ على غيرِ مُراد الله تعالى ، فضلُّوا وأضلُّوا ؛قال الزُّهريّ : " إنّما أخطأَ النّاسُ في كثيرٍ من تأويلِ القرآنِ لجهلِهم بلغةِ العربِ " .
و قالَ أبُو عُبَيْدٍ : " سمعتُ الأصمعيَّ يقولُ : سمعتُ الخليلَ بنَ أحمدَ يقولُ : سمعتُ أبَا أيّوبٍ السَّخْتِيَانيّ يقولُ : " عامّةُ مَن تزندقَ بالعراقِ لقلّةِ علمِهم بالعربيّة "[11].
و قالَ الشّاطبيّ رحمهُ اللهُ - في معرضِ حديثِه عن استدلالاتِ أهـلِ البدعِ - :" و منها : تخرّصُهـم على الكلامِ في القرآنِ و السّنةِ العَرَبِيَيْنِ مع العُزوفِ عن علمِ العربيّةِ ، الذي يُفهمُ به عن اللهِ و رسولِه ، فيفتاتونَ على الشّريعةِ بما فهمُوا ، و يدينونَ به ، و يُخالفُونَ الرّاسخينَ في العلمِ"[12].
و قالَ ابنُ جِنِّيّ – رحمهُ اللهُ - : " ... و ذلكَ أنَّ أكثرَ مَنْ ضلَّ مِن أهلِ الشّريعةِ عنِ القصدِ فيها ، و حادَ عن الطّريقةِ المُثلى إليها ، فإنّما استهواهُ و استخفَّ حِلمَهُ ضعفُهُ في هذه اللّغةِ الكريمةِ الشّريفةِ ، التي خُوطِـبَ الكافّةُ بها ... و لو كانَ لهم أُنسٌ بهذه اللّغةِ الشّريفةِ ، أو تصرُّفٌ فيها ، أو مُزاولةٌ لها ، لحَمَتهم السّعادةُ بها ما أصارتهم الشِقوةُ إليه ، بالبُعد عنها " [13].
أمّا علماءُ أهلِ السّنةِ فقد أدركُوا علاقةَ الإسلامِ المتينةَ باللّغة العربيّة ، فأتقنوها غايةَ الإتقانِ ، فكان ذلك خيرَ وسيلـةٍ للفهمِ الصّحيحِ لنُصوصِ الكتابِ و السنّةِ ، و خيرَ عونٍ لهم على استنباطِ الأحكام الشّرعيّةِ .
و لقدْ كانَ سلفُنا الصّالحُ يحرِصونَ على تقويمِ ألسنتِهم ، و يجتنبونَ اللّحنَ في كلامِهم ، و يعدّون ذلك عَيْباً ؛ لذا أمرُوا بتعلُّمِ العربيّة و التّفقّه فيها ، للبُعد عن معرّةِ الخطأ ، و شَيْنِ الخطلِ . و مِن التّشبُّهِ بهم اجتنابُ اللّحنِ ، لأنّهم ما كانوا يَلحَنونَ في نُطقِهم ، و لا يُخطِئون في خطِّهم .
و لمّا كانتِ اللّغةُ العربيّةُ بهذه المثابةِ و في هذه المنزلةِ ، و أنّها طريقٌ إلى فهمِ نُصوصِ الوحيَيْنِ ، ووسيلةٌ لحفظِ الشّريعةِ ، ذهبَ كثيرٌ مِنْ أهلِ العلمِ إلى القولِ بوجوبِ تعلُّمِها ، و حُسنِ استعمالِها ، و اعتبرُوا ذلكَ منَ الدِّينِ .
قالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميّةَ - رحمهُ اللهُ - : " و اعلمْ أنَّ اعتيادَ اللّغةِ يُؤثّرُ في العقلِ و الخُلُقِ و الدّينِ تَأثيراً قويّاً بيِّناً ، ويُؤثّـرُ أيضاً في مُشابهةِ صدْرِ هذه الأمّةِ مِن الصّحابةِ و التّابعينَ . و مُشابهتُهمْ تزيدُ العقلَ و الدِّينَ و الخُلُقَ . و أيضاً فإنّ نفسَ اللّغـةِ العربيّةِ مِن الدّينِ ، و معرفتُها فرضٌ واجبٌ ، فإنّ فهمَ الكتابِ و السّنةِ فرضٌ ، و لا يُفهمُ إلاّ بفهمِ اللُّغةِ العربيّةِ ، و ما لا يتمُّ الواجبُ إلاّ به فهوَ واجبٌ ، ثمّ منها ما هو واجبٌ على الأعيانِ ، و منها ما هو واجبٌ على الكِفايـةِ ، و هذا معنى ما رواهُ أبو بَكرِ بنِ أبي شَيْبَةَ [14]حدّثنَا عِيسى بنُ يُونُسَ عن ثَوْرٍ عنْ عُمَرَ بنِ يَزيدَ قالَ :" كتبَ عُمَرُ رضي الله عنه إلى أبي مُوسى الأشعريّ رضي الله عنه : أمّا بعدُ ، فتفقّهُوا في السّنةِ ، و تفقّهُوا في العربيّةِ ، و أَعْرِبوا القرآنَ فإنّه عربيّ " . وفـي حديثٍ آخرَ عن عُمَرَ رضي الله عنه أنّه قالَ : " تعلّمُوا العربيّةَ فإنّها مِن دينِكمْ ، و تعلّمُوا الفرائضَ فإنّها مِن دينِكمْ " . و هذا الذي أَمَرَ به عُمَرُ رضي الله عنه مِن فِقهِ العربيّةِ ، و فِقهُ الشّريعةِ يَجمعُ ما يُحتاجُ إليهِ ، لأنَّ الدّينَ فيه فِقهُ أقوالٍ و أعمالٍ ، ففِقهُ العربيّةِ هو الطّريقُ إلى فِقهِ أقوالِهِ ، و فِقهُ السّنةِ هو الطّريقُ إلى فِقهِ أعمالِهِ " [15].
و قَالَ النّووِيّ - رحمهُ اللهُ -: " و على طالِبِ الحديثِ أن يتعلّمَ مِنَ النّحوِ و اللُّغَةِ ما يَسلَمُ به منَ اللّحْنِ و التّصحيفِ " [16].
و قال ابنُ الصَّلاحِ - رحمهُ اللهُ - : " فحقّ على طالبِ الحديثِ أنْ يتعلّمَ مِنَ النَّحْوِ و اللُّغَةِ ما يتخلَّصُ بهِ عنْ شَيْنِ اللَّحْـنِ ، و التّحريفِ ، و مَعَرَّتِهمَا "[17].
و قال السَّخاويّ -رحمهُ اللهُ- : " و ظاهرُه الوجوبُ ، و به صرّحَ العزُّ بنُ عبدِ السّلامِ ، حيثُ قال - في أواخرِ القواعدِ -: ... فالواجبةُ : كالاشتغالِ بالنّحوِ الذي نُقيمُ به كلامَ اللهِ تعالى و رسولِه صلّى الله عليه و سلّم ، لأنَّ حِفظَ الشّريعةِ واجبٌ لا يتأتّى إلاّ بذلك ، فيكونُ مِنْ مُقدّمةِ الواجبِ ، و لذا قال الشّعبيّ : " النّحوُ في العلمِ كالملحِ في الطّعامِ ، لا يَستغني شيءٌ عنه " ... و كذا صرّحَ غيرُه بالوجوبِ أيضاً ، لكنْ لا يجبُ التّوغُّلُ فيه ، بل يكفيهِ تحصيلُ مُقدّمةٍ مُشيرةٍ لمقاصدِهِ بحيثُ يفهمُها و يميِّزُ بها حركـاتِ الألفاظِ و إعرابها لئلاَّ يلتبسَ فاعلٌ بمفعولٍ ، أو خبرٌ بأمرٍ ، أو نحو ذلك . و إنْ كان الخطيبُ قال - في جامعه -: إنّهُ ينبغـي للمُحدِّثِ أنْ يتّقيَ اللّحنَ في روايتِهِ ، و لنْ يقدِرَ على ذلك إلاّ بَعْدَ دُرْبةِ النّحوِ ، و مُطالعتِهِ عِلمَ العربيّةِ " [18] .
و قال المُظَفَّرُ بنُ الفَضْلِ - رحمهُ اللهُ- : " فأمّا النّحوُ فإنّهُ مِن شرائطِ المتكلِّمِ ، سواء كان ناظماً أو ناثراً ، أو خطيباً أو شاعراً و لا يمكنُ أنْ يَستغنيَ عنه إلاّ الأخْرسُ الذي لا يُفصحُ بحرفٍ واحدٍ . و كان بعضُ البُلغاءِ يقولُ : إنّي لأجدُ لِلَّحنِ في فمـي سُهُوكَةً [19] كَسُهُوكَةِ اللّحمِ ... وهذا حثٌّ على تقويمِ اللّسانِ وتأدُّبِ الإنسانِ . وقال عليّ رضي الله عنه : " تعلّمُوا النّحوَ فإنّ بني إسرائيلَ كفرُوا بحرفٍ واحدٍ كانَ في الإنجيلِ الكريمِ مَسْطُوراً ، و هو : ( أنا ولّدتُ عيسى ) - بتشديدِ اللاّمِ – فخفَّفُـوه ، فكفرُوا . و ما قدْ وردَ في الحثِّ على تَعلُّمِ النّحوِ ، و في شرفِ فضيلتِه وجلالةِ صِناعتِه ، لو تعاطينا حِكايتَه لاحتجْنا فيه إلى كتابٍ مُفردٍ ، إذْ بمعرفتِهِ يُعقَلُ عنِ اللهِ عزّ وجلّ كتابُه ، و ما استوعاهُ مِن حكمتِهِ ، و استودعَهُ مِن آياتِه المبِينةِ ، و حُجَجِـهِ المنِيرةِ ، و قُرآنِهِ الواضِحِ ، و مواعظِـهِ الشّافيةِ ، وبه يُفهمُ عن النّبيِّ صلّى الله عليه و سلّم آثارُه المؤدّيةُ لأمرِهِ و نهيِهِ و شرائعِهِ و سُننِهِ ، و بـه يَتّسِعُ المرءُ في مَنطقِهِ ، فإذا قالَ أفْصحَ ، و إذا احتجَّ أوْضحَ ، و إذا كتبَ أبلغَ ، و إذا خَطبَ أَعْجبَ " [20] .
و قدْ ضُرِبَتْ أمثالٌ بليغةٌ فيمنْ أحسنَ ألواناً منَ العلمِ ، و لكنّه لم يُتقنِ العربيّةَ ، و لم يُحسنْ ضبطَ ألفاظِها ؛ فقالَ شُعبـةُ : " مَن طلبَ الحديثَ ولم يُبصِرِ العربيَّةَ ، فمَثَلُهٌ مَثَلُ رَجُلٍ عليه بُرْنُسٌ ليسَ له رأسٌ " أو كما قالَ [21].
و قالَ حمّادُ بنُ سَلَمَةَ : " مَثَلُ الذي يَطلبُ الحديثَ و لا يَعرِفُ النّحوَ مَثَلُ الحِمارِ عليه مِخْلاَةٌ [22] لا شَعيرَ فيها " .
و تَضيِيعُ اللّسانِ أَشدُّ و أَضرُّ على النّفسِ مِن تضييعِ المالِ و الثّروةِ ؛ فقدْ قالَ الشّافعيّ – رحمهُ اللهُ - : " تعلّمُوا النّحوَ ، فإنّه - واللهِ - يُزْرِي بالرّجُلِ أنْ لا يكونَ فَصيحاً ، و لقدْ بَلغَني أنَّ رَجُلاً دخلَ على زيّادِ ابنِ أبيه فقالَ له : أصلحَ اللهُ الأميرَ ، إنَّ أَبِينَا هلكَ ، و إنَّ أَخِينَا [23] غَصَبَنا على ما خلّفهُ لنا ، فقال له زِيَادٌ : ما ضيَّعتَ مِن نفسكَ أكثرُ ممّا ضاعَ مِنْ مالِكَ " [24] .
و كثرةُ الاعتناءِ بجمعِ المالِ و الحرصُ على ذلك مَشْغلةٌ عن تقويمِ اللّسانِ ؛ فقد روى البيهقيّ عن ابنِ السّائبِ قال : " شهدتُ الحسنَ ، فأتاهُ رَجُلٌ ، فقال : يا أبو سعيدٍ ! قال : " كَسْبُ الدّوانيقِ [25] شغلكَ أنْ تقولَ : يا أبا سعيدٍ ! "[26].
و مِن الآثارِ السيِّئةِ للّحنِ أنّه قد يكونُ مانِعاً مِن إجابةِ دُعاءِ الدَّاعينَ ، و مَسألةِ السّائِلينَ ؛ فقد روى البيهقيّ – أيضاً – عـن محمّدِ بنِ الفَضْلِ حدّثني الرِّياشِيّ قال : " مرّ الأصْمَعيُّ برَجُلٍ يدعُو و يقولُ - في دعائِه - : يا ذُو الجلالِ و الإكرامِ ! فقال له الأصْمعيّ : " يا هذا ! ما اسمُكَ ؟ فقالَ : لَيْثٌ ، فقال الأصْمَعيّ :
يُناجِي ربَّهُ باللَّحنِ لَيْثٌ *** لِذاك إذا دعاهُ لا يُجِيبُ "[27].
بعدَ أن عرفنا هذا كلََّه ، كيفَ نرضى إذا تكلَّمنا أنْ تكونَ ألسنتُنا مُعوجّةً ، و أحدُنا لا يرضى أنْ يكونَ الحذاءُ الذي في رجلِه إلاّ في نهاية الحُسنِ و البهاءِ و الجمالِ ؟! . و أيُّ عُضوٍ أَولى بأنْ يُحفظَ من الزّلل مِن اللّسان الذي كرّمهُ الله تعالى ، إذْ أنطقَهُ بتوحيدِه ؟! [28].
وَ العَجبُ - الذي لا يكادُ ينقضِي- مِنْ أُناسٍ لا يَعلمُ أحدُهم مِن عِلمِ العربيّةِ إلاّ اسمَه ، و لا مِن النّحوِ إلا رسمَه ، بل إنّه قد لا يَستطيعُ أنْ يُركِّبَ جملةً تركيباً صحيحاً ، ولا يقدرُ على ضبطِ الكلماتِ بالشّكلِ على الصّـوابِ ، ثمّ يتسوّرُ المراقـي ، فيدّعي العلمَ ، ثمّ تراهُ يُمطِرُ على كلِّ مَن خالفَهُ بوابلٍ من السِّبابِ و الشّتائمِ ، وهـو يحسبُ أنّه يُحسنُ صُنعاً ؛ و تأمّلْ معي - رعاكَ اللهُ - في هذه الواقعةِ و اعتبرْ ؛ فعنِ العبّاسِ بنِ المغيرةَ بنِ عبدِ الرّحمنِ عن أبيهِ قـالَ : " جاءَ عبدُ العزيزِ الدَّرَاوَرْدِيُّ في جماعةٍ إلى أَبي لِيعرضُوا عليه كتاباً ، فقرأهُ لهم الدَّرَاوَرْدِيُّ ، وكانَ رَديءَ اللّسانِ ، يَلْحَنُ لحناً قبيحاً ، فقالَ أبي : ويحكَ يا دَرَاوَرْدِيُّ ! أنتَ كنتَ إلى إصلاحِ لسانِكَ قبلَ النّظرِ في هذا الشّأنِ أحوجُ منكَ إلى غيرِ ذلك " [29].
و أُنبِّهُ – في الخِتامِ - على أمـرٍ مُهمٍّ ، و هو أنَّ دراسةَ النّحوِ و مَعرفةِ قواعدِه ليس مَطلوباً لذاتِه ، بل هو وَسيلةٌ لغايةِ كُبرى و هي تقويمُ اللِّسانِ ، و ضبط التّعبيرِ . و مِن الخطإِ البيِّنِ أنْ نقصرَ الاهتمامَ على دراسةِ النّحوِ دونَ تطبيقٍ لقواعدِه ، و ضبطٍ للكلماتِ ضبطاً صحيحاً .
و لمّا قلَّ أنْ يجتمِعَ في طالبِ العلمِ – اليومَ - تمكُّنٌ في النّحوِ و في العلومِ الشّرعيةِ ، فيَكفِيه أنْ يأخذَ مِن اللّغةِ العربيّةِ ما يُقوِّمُ به لسانَه ، و يَصونُه عن الخطإِ ، و إنْ لم يَغُصْ في دقائقِها ، و يتعمّقْ في مسائلِها .
هذا و العلم عند الله و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين.
________
[1] انظر : " بهجة المجالس و أُنس المجالس " لابن عبد البرّ ( ص : 8 ) .
[2] هَجُنَ الكلامُ و غيرُه : صار مَعيبا مَرذولاً . و هَجُنَ الأمرُ : قبُح .
[3] الصّميم : المحض الخالص في الخير و الشّر .
[4] مُقتبس مِن مقدّمة ابن مَكيّ الصّقليّ لكتابه " ثتقيف اللّسان و تنقيح الجَنان " .
[5] اللّحْن : هو الخطأ ، كنصب المرفوع ، و رفع المجرور ، و نحو ذلك .
[6] التّصحيف : هو التّشابُهُ في الخطِّ بين كلمتينِ فأكثر ، بحيثُ لو غُيّرتْ نُقَطُ كلمةٍ لكانت عينَ الثّانية ، نحو : التّحلّي ، و التّجلّي ، و التخلّي .
[7] انظر : " بهجة المجالس و أُنس المجالس " لابن عبد البرّ ( ص : 9 ) .
[8] المصدر السّابق ( ص : 7 ) .
[9] " روضةِ العقلاءِ و نزهة الفضلاء " ( ص : 223 ) .
[10] انظر : " الجامع لأخلاق الرّاوي و آداب السّامع " للخطيب البغدادي [ التّرغيب في تعلُّم النّحو و العربيّة لأداء الحديث بالعبارة السّويّة ] ( 2 / 25 ) .
[11] انظر : مقدّمة كتاب " المؤمّل في الرّدّ إلى الأمر الأوّل " لأبي شامة المقدسيّ ، و " عناية المسلمين باللّغة العربيّة خدمة للقرآن الكريم " لسليمان بن إبراهيم العايد ( ص : 25 ) .
[12] " الاعتصام " ( 1 / 237 ) .
[13] " الخصائص " ( 3 / 245 ) .
[14] " المصنّف " رقم : ( 25651 ) و ( 29914 ) .
[15] " اقتضاء الصّراط المستقيم " ( ص : 207 ) .
[16] انظر : " تدريب الرّاوي " للسّيوطيّ ( 2 / 106 ) .
[17] " مقدّمة ابن الصلاح " ( 1 / 47 ) .
[18] " فتح المغيث شرح ألفيّة الحديث " ( 2 / 258 – 259 ) .
[19] و هي رائحة اللّحم الخنز ، و ريح السّمك ، أو ريح العرق و الصّدأ .
[20] " نضرة الأغريض في نصرة القريض " ( ص : 3 ) .
[21] انظر " المقنع في علوم الحديث " لابن الملقن ( ص : 379 ) .
[22] و هي التي تُعلّق على رأسه .
[23] و هذا مِن اللّحن الشّائع عندنا ، فيُنادِي بعضُ النّاس المستقيمَ من المسلمين به ، فيقول : " أَخِينا ! " و الصّواب : " أَخَانا ! " بحذف حرف النّداء ، و التّقدير : " يَا أَخَانا ! " .
[24] انظر : " تاريخ دمشق " لابن عساكر ( 19 / 195 ) .
[25] جمع دَانَِق – بفتح النّون و كسرها – مِن الأوزان : و هو سُدُس الدّرهم و الدّينار .
[26] " شُعَب الإيمانِ " ( 1563 ) .
[27] " شُعَب الإيمانِ " ( 1565 ) .
[28] انظر " اتّفاق المباني و افتراق المعاني " لتقيّ الدّين المصريّ ( ص : 138 ) .
[29] انظر : " سير أعلام النّبلاء " للذّهبيّ ( 15 / 382 ) .