قَمِّشْ ثم فَتِّشْ !!
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
من مناهج الأئمة المصنفين في الحديث قاعدة درجوا عليها (قَمِّشْ ثم فَتِّشْ)، وبعضهم يقول
إذا جمعت فقمش، وإذا حَدَّثْتَ ففتش).
ومعنى هذا: أي اجمع الأحاديث بجميع أسانيدها وطرقها، ثم ابحث عن صحتها قبل روايتها.
أخرج الخطيب البغدادي في"تاريخ بغداد"(1/344) عن يحيى بن معين قال:
" إذَا كَتَبْتَ فَقَمِّشْ، وَإِذَا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ ".
و أخرج ابن عساكر في"تاريخ دمشق"(65/14)من طريق يزيد بن مجالد المعبر قال: سمعت يحيى بن معين يقول: " إذَا كَتَبْتَ فَقَمِّشْ، وَإِذَا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ ".
وذكره المزى فى "تهذيب الكمال"(31/549).
وأخرج الخطيب في"الجامع لآداب الراوي والسامع"(2/220) عن أبي حَاتِمٍ الرَّازِيَّ، قَالَ: «إ ِذَا كَتَبْتَ فَقَمِّشْ، وَإِذَا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ ».
وهذه العبارة صارت دستور المحدثين والعلماء، في التحصيل والأداء:
إذا كتبت فقمش ــ أي اكتب كل ما تسمع واجمعه ــ، وإذا حدثت ففتش -أي ميّز وانتخب.
وهي أيضاً تعكس صورة من صور حرص المحدثين على الطلب.
قالَ الحافظ العراقي-رحمه الله-في"شرح التبصرة والتذكرة"(2/47)شارحاً قول أبي حاتم الرازي السابق عند ابن الصلاح في"مقدمته"(ص249):
" والتَّقْمِيْشُ والقَمْشُ أيضاً: جمعُ الشيءِ من هاهُنا وهاهُنا. وَلَمْ يُبَيِّنِ ابنُ الصلاحِ ما المرادُ بذلكَ، وكأنَّهُ أرادَ: اكْتُبِ الفائدةَ ممَّنْ سمعتَها ولا تُؤخِّرْ ذلكَ حَتَّى تنظرَ فيمَنْ حدَّثكَ، أهُوَ أهلٌ أنْ يُؤخَذَ عَنْهُ أم لا؟
فربَّما فاتَ ذلكَ بموتِ الشيخِ أو سفرِهِ، أو سفرِكَ. فإذا كانَ وقتُ الروايةِ عنهُ، أو وقتُ العملِ بذِلكَ، فَفَتِّشْ حينئذٍ. وقد ترجمَ عليهِ الخطيبُ: باب مَنْ قالَ: يكتبُ عَنْ كُلِّ أحدٍ.
ويَحْتَمِلُ: أنَّ مرادَ أبي حاتمٍ استيعابُ الكتابِ المسموعِ، وتركُ انتخابهِ، أوْ استيعابُ ما عندَ الشيخِ وقتَ التحمُّلِ، ويكونُ النظرُ فيهِ حالةَ الروايةِ. وقدْ يكونُ قَصْدُ المحدِّثِ تكثيرَ طُرُقِ الحديثِ، وجَمْعَ أطرافِهِ، فيكثرُ لذلكَ شيوخُه ولا بأْسَ بذلكَ. فقد روينا عن أبي حاتمٍ قالَ: لو لَمْ نكْتُبِ الحديثَ من ستينَ وجهاً ما عَقَلْنَاهُ.
وقد وُصِفَ بالإكثارِ من الشيوخِ سفيانُ الثوريُّ، وأبو داودَ الطيالسيُّ، ويونسُ بنُ محمّدٍ المؤدِّبُّ، ومحمّدُ بنُ يونسَ الكُدَيميُّ، وأبو عبدِ الله ابنُ مَنْدَه، والقاسمُ بنُ داودَ البغداديُّ، روينا عنهُ قالَ: كتبْتُ عن ستةِ آلافِ شيخٍ.
وينبغي للطالبِ أنْ يسمعَ، ويكتبَ ما وقعَ له من كتابٍ، أو جُزءٍ على التَّمَامِ، ولا يَنتخبْهُ، فربمَّا احتاجَ بعدَ ذلكَ إلى روايةِ شيءٍ منهُ لَمْ يَكنْ فيما انتخبَهُ مِنْهُ، فيندمُ، وقد روينا عن ابنِ المباركِ قالَ: ما انتخبتُ على عالمٍ قَطُّ، إلاَّ نَدمْتُ. وروينا عنهُ قالَ: ما جاءَ مِن مُنْتَقٍ خيرٌ قَطُّ. وروينا عن يحيى ابنِ معينٍ قالَ: صاحبُ الانتخابِ يندمُ، وصاحبُ النسخِ لا يندمُ".
فيا من يشتغل بالسنة ودراسة الأسانيد إذا أردت أن تجمع الروايات لتعتبرها؛ فعليك بجمع الغث والثمين فاجمع كل ما ينفع وما لا ينفع، فرب خطأ يهدي إلى كثير من الصواب، ورب حديث يرشدك إلى معنى في حديث آخر، ورب رواية ترشدك إلى علة وقعت في رواية أخرى فينبغي عليك أن تكثر من الجمع؛ ومن شواهده من كلام المحدِّثين السَّابقين قول ابن المبارك-رحمه الله-: « إِذَا أَرَدْتَ أَنْ يَصِحَّ لَكَ الْحَدِيثُ، فَاضْرِبْ بَعْضَهُ بِبَعْضٍ »[أخرجه الخطيب في"الجامع"(2/295)]، وقال علي بن المديني -رحمه الله- يقول: « الْبَابُ إِذَا لَمْ تَجْمَعْ طُرُقَهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَؤُهُ »[أخرجه الخطيب في"الجامع"(2/212)]، وقال ابن معين-رحمه الله-: « اكْتُبِ الْحَدِيثَ خَمْسِينَ مَرَّةً، فَإِنَّ لَهُ آفَاتٍ كَثِيرَةً »[أخرجه الخطيب في"الجامع"(2/212)].
فلابد أن تكثر من الجمع، وهذا هو الأمر الذي يتميز به علماء الحديث عن غيرهم، فعلماء الحديث لا يكتفون بالنظرة السطحية في الإسناد، فيقولون: هذا إسناد يشتمل على رواة، هذا الراوي ثقة وذاك ثقة، وهذا ثقة وكل قد سمع من شيخه إذن الحديث صحيح، هذه نظرة سطحية لا يعتبرها علماء الحديث ولا يكتفون بها ولا يغترون بظاهرها وإنما يتتبعون الروايات فلربما كان هذا الثقة وإن كان هو من جملة الثقات أخطأ في هذا الحديث بخصوصه، فكيف نميز إن كان هذا الحديث مما أصاب فيه أو مما أخطأ فيه؟.
بجمع الروايات وضرب بعضها ببعض وعرض بعضها على بعض فيتبين من ذلك ما أصاب فيه المصيب وما أخطأ فيه المخطيء.
والحاصل أن طالب العلم عليه الجمع من العلم والحديث ما يستطيع، ثم الانتخاب والاختيار بعد ذلك، قال الإمام وكيعِ بنِ الجرَّاحِ -رحمه الله-:" لَا يَنْبُلُ الرَّجُلُ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ حَتَّى يَكْتُبَ عَمَّنْ هُوَ فَوْقَهُ وَعَمَّنْ هُوَ مِثْلُهُ وَعَمَّنْ هُوَ دُونَهُ "[ أخرجه الخطيب في"الجامع" (2/216) ].
فقد غدت هذه الكلمات المأثورة عن أئمة الحديث-رحمهم الله-: " إِذَا كَتَبْتَ فَقَمِّشْ، وَإِذَا حَدَّثْتَ فَفَتِّشْ "؛ أصل لما يتبع في تأليف الكتب والرسائل العلمية التي تنال بها درجات التخصص والبحث العلمي اليوم.
والله الموفق والمعين.
وكتبه: محمد الديسطي