السؤال :
قد عرفنا من كلام سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
أن البناء والقباب على القبور لا يجوز، فما حكم القبّة الخضراء
على قبر الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة ؟
الجواب :
لا ريب أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن البناء على القبور
ولعن اليهود والنصارى على اتخاذ المساجد عليها، فقال عليه الصلاة والسلام:
لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه مسلم في الصحيح، عن جابر أنه:
نهى عن تجصيص القبور والقعود عليها، والبناء عليها
وفي رواية للترمذي وغيره والكتابة عليها .
فالبناء على القبور، واتخاذ مساجد عليها من المحرمات التي حذر منها
النبي عليه الصلاة والسلام، وتلقاها أهل العلم بما قاله - صلى الله عليه وسلم - بالقبول
ونهى أهل العلم عن البناء على القبور، واتخاذ المساجد عليها
تنفيذًا للسنة المطهرة، ومع ذلك فقد وجد في كثير من الدول والبلدان
البناء على القبور واتخاذ المساجد عليها، واتخاذ القباب عليها أيضًا
وهذا كله مخالف لما جاءت به السنة عن الرسول عليه الصلاة والسلام
وهو من أعظم وسائل وقوع الشرك، والغلو في أصحاب القبور
فلا ينبغي لعاقل ولا ينبغي لأي مسلم أن يغترَّ بهؤلاء وأن يتأسى بهم
فيما فعلوا؛ لأن أعمال الناس تعرض على الكتاب والسنة
فما وافق الكتاب والسنة، أو وافق أحدهما قبل، وإلا رد على من أحدثه
كما قال الله سبحانه:
وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ
وقال عز وجل:
فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ .
أما ما يتعلق بالقبة الخضراء التي على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -
فهذا شيء أحدثه بعض الأمراء في المدينة المنورة، في القرون المتأخرة
في القرن التاسع وما حوله.
ولا شك أنه غلط منه، وجهل منه، ولم يكن هذا في عهد
النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا في عهد أصحابه ولا في عهد القرون المفضلة
وإنما حدث في القرون المتأخرة التي كثر فيها الجهل، وقل فيها العلم
وكثرت فيها البدع، فلا ينبغي أن يغترَّ بذلك، ولا أن يقتدى بذلك
ولعل من تولى المدينة من الملوك والأمراء، والمسلمين
تركوا ذلك خشية الفتنة من بعض العامة، فتركوا ذلك وأعرضوا عن ذلك
حسمًا لمادة الفتن؛ لأن بعض الناس ليس عنده بصيرة، فقد يقول:
غيروا وفعلوا بقبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا كذا، وهذا كذا
فيثير إلى فتن لا حاجة إلى إثارتها وقد تضر إثارتها
فالأظهر والله أعلم أنها تركت لهذا المعنى خشية رواج فتنة يثيرها
بعض الجهلة، ويرمي من أزال القبّة أنه يستهين بالنبي - صلى الله عليه وسلم -
أو بأنه لا يرعى حرمته عليه الصلاة والسلام هكذا يدعي عبّاد القبور
وأصحاب الغلو إذا رأوا من يدعو إلى التوحيد، ويحذر من الشرك والبدع
رموه بأنواع المعايب، واتهموه بأنه يبغض النبي عليه الصلاة والسلام
أو بأنه يبغض الأولياء، أو لا يرعى حرمته - صلى الله عليه وسلم -
أو ما أشبه هذه الأقاويل الفاسدة الباطلة، وإلا فلا شك أن الذي عملها قد أخطأ
وأتى بدعة وخالف ما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - في التحذير من البناء
على القبور، واتخاذ المساجد عليها.
وأما البناء الأول فهو بيت عائشة ؛ كان دُفن عليه الصلاة والسلام
في بيت عائشة والصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم خافوا على دفنه
في البقيع من الفتنة، فجعلوه في بيت عائشة ثم دفنوا معه صاحبيه:
أبا بكر وعمر رضي الله عنهما
ولم يكن الدفن في المسجد بل كان في بيت عائشة، ثم لما وسِّع المسجد
في عهد الوليد بن عبد الملك في آخر القرن الأول أدخل الحجرة في التوسعة
فظن بعض الناس الذين لا يعلمون أن الرسول دفن في المسجد وليس الأمر كذلك
بل هو عليه الصلاة والسلام دفن في بيت عائشة في خارج المسجد
ولم يدفن في المسجد فليس لأحد حجة في ذلك أن يدفن في المساجد
بل يجب أن تكون المساجد خالية من القبور، ويجب ألا يبنى أي مسجد على قبر،
لكون الرسول حذر من ذلك عليه الصلاة والسلام فقال:
لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد .
أخرجه الشيخان البخاري ومسلم في الصحيحين
وروى مسلم في صحيحه رحمه الله، عن جندب بن عبد الله البجلي عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سمعه يقول: قبل أن يموت بخمس يقول:
إن الله اتخذني خليلاً، كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذًا من أُمتي خليلاً
لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم
وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوها مساجد فإني أنهاكم عن ذلك
فذم من اتخذ المساجد على القبور، ونهى عن ذلك بصيغتين إحداهما قوله :
فلا تتخذوها مساجد
والثانية: فإني أنهاكم عن ذلك
وهذه مبالغة في النهي والتحذير منه عليه الصلاة والسلاممن وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: ذم من اتخذ المساجد على قبور الأنبياء والصالحين قبلنا
والثاني: نهى عن ذلك بصيغة لا تتخذوا
والثالث: أنه نهى عنه بصيغة وإني أنهاكم عن ذلك، وهذه مبالغة في التحذير
وسبق في حديث عائشة أنه نهى عنه باللعن، قال:
لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد
هذا يبين لنا ويبين لكل مسلم ولكل ذي فهم أن البناء على القبور
واتخاذ القباب عليها والمساجد أنه مخالف لشريعة الله التي جاء بها
النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه منكر وبدعة في الدين
وأنه من وسائل الشرك، ولهذا لما رأى العامة والجهلة هذه القبور المعظمة
بالمساجد والقباب وغير ذلك، والفرش ظنوا أنها تنفعهم، وأنها تجيب دعاءهم
وأنها ترد عليهم غائبهم، وتشفي مريضهم، فدعوها واستغاثوا بها
ونذروا لها ووقعوا في الشرك، بسبب ذلك.
فالواجب على أهل العلم والإيمان أين ما كانوا أن يحذروا الناس
من هذه الشرور، وأن يبينوا لهم أن البناء على القبور من البدع المنكرة
وهكذا اتخاذ القباب والمساجد عليها من البدع المنكرة وأنها من وسائل الشرك
حتى يحذر العامة ذلك، ليعلم الخاص والعام أن هذه الأشياء
حدثت بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وبعد أصحابه رضي الله عنهم
وبعد القرون المفضلة، حتى يحذروها وحتى يبتعدوا عنها والزيارة الشرعية
للقبور هي أن يزوروها للسلام عليهم، والدعاء لهم والترحم عليهم
لا لسؤالهم، ودعائهم، وقضاء الحاجات وتفريج الكروب، فإن هذا شرك بالله
ولا يجوز إلا مع الله سبحانه وتعالى، ولكن الجهلة والمشركين بدلوا
الزيارة الشرعية، بالزيارة المنكرة الشركية، جهلاً وضلالاً
ومن أسباب هذا الشرك والبدع وجود هذه البنايات، والقباب والمساجد
على القبور، ومن أسباب ذلك سكوت كثير من العلماء عن ذلك
إما للجهل بالحكم الشرعي لذلك، من بعضهم وإما يأسهم من قبول العامة
وعدم الفائدة من كلامه منهم لما رأوه من إقبالهم عليها
وإنكارهم على من أنكر عليهم، وإما لأسباب أخرى.
فالواجب على أهل العلم أينما كانوا أن يوضحوا للناس ما حرم الله عليهم
وأن يبنوا ما أوجب الله عليهم، وأن يحذروهم من الشرك وأسبابه ووسائله
فإن العامة في ذمتهم، والله أوجب عليهم البلاغ والبيان، وحرَّم عليهم الكتمان.