الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وبعد:
يُفيدنا الأحبة كلَّ يوم بفائدة عزيزة:
قال أخي أبو البراء أنور الهجّاري وفقه الله :
خطأٌ فاحش وقع فيه أبو تمام في قصيدة له في جعله
كلمة النّاس مشتقةٌ من النسيان ؟!
_______________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والآه
أما بعد :
قال أبو تمام ـ حبيب بن أوس الطائي ـ ( م / 237هـ ) في قصيدة له سينيّة رائقة ، رائعة ، ماتعة ، تبلغُ خمسةً وثلاثين بيتاً ؛ مادحاً بها أحمد بن الخليفة المعتصم العباسي ، مطلعها :
**************
ما في وُقوفك ساعةً من باس ** تقضي ذمام الأرْبُع الأدراس
فلعلَّ عينك أن تسيل بمائها ** والدمعُ منه خاذلٌ ومُوَاسـي
ومنها أيضاً :
إقدامُ عَمْرو في سماحة حاتم ** في حلم أحنفَ في ذكاء إياس
لا تُنكروا ضربي له مَنْ دونه ** مثلاً شروداً في الندى والباس
فالله قد ضرب الأقـلَّ لنوره ** مثـلاً من المشـكاة والنّبـْرَاس
*************
فذكرَ في هذه القصيدة بيتاً تضمن خطأً صرفياً بُنيَ على أساسه خطأٌ آخر في معنى البيت وفهمه ؛ ألا وهو قوله :
______________________
لا تنْسين تلك العهود فإنما ** سُمّيتَ إنساناً لأنك ناس
والخطأ في عجز البيت :
(سُمّيتَ إنساناً لأنك ناس )
________________________
وهذا غير صحيح ؛ وهو فاسد من جهة اللفظ والاشتقاق ، ومن جهة الأصل والاستعمال .
فإنّ بين الناس وبين الإنس مُناسبة في اللفظ والمعنى وبينهما اشتقاق أوسط ؛ وهو عقد تقاليب الكلمة على معنى واحد .
فلإنس والإنسان مُشْتقٌ من ( الإيناس )
وهو : الرؤيا والإحساس (1) ، ومنه قوله تعالى : { ءَانَسَ منْ جانب الطُّور ناراً }
أي : رآها
ومنه : { فإنْ ءَانستُم مّنْهُم رُشْداً }
أي : أحسستمُوه ورأيتموه .
فالإنسان سُمّيَ إنساناً ؛ لأنه يُؤْنسُ أي : يُرى بالعين ، لا من النسيان كما ذكر أبو تمام .
واللغويون يقولون :
الناس فيها قولان :
أحدهما : إنه مقلوب من ( أَنَسَ ) ؛ وهو بعيد لأن الأصل عدم القلب
والثاني : ـ وهو الصحيح ـ أنه مأخوذ من ( النَّوْس ) وهو الحركة المتتابعة في الظاهر والباطن ، ولذلك سُمّيَ الناس ناساً .
فحقيقةُ النَّوْس حركتا الظاهر والباطن ، وأصل ( ناسَ ) من حيث الاشتقاق الصرفي من : ( نَوَسَ ) ، تحركت الواو وقبلها فتحة فصارت ألفاً .
وهذان هما القولان المشهوران في اشتقاق الناس .
أما القول : بأنّه من النسيان وأنّ الإنسان سُمّيَ إنساناً لنسيانه ، وكذلك الناس ؛ سُمُّوا ناساً لنسيانهم ، فليس هذا القول بشيء ، بل هو غلط فاحش
بيـــــــانُـــه :
النّسيانُ ، مادته : ( ن . س . ي )
والنَّاس ، مادته : ( ن . و . س )
والأنس ، مادته : ( أ . ن . س )
فإنْسان : على وزن : فعْلان ، من ( أ . ن . س ) ، والألف والنون في آخره زائدتان
ولا يجوز في لغة العرب غير هذا ، إذ ليس في كلامهم : ( أنْسَن ) حتى يكون : إنْسان ( إفعالا ) منه ، ولا يجوز أن يكون الألف والنون في أوّله زائدتين ، إذ ليس في كلامهم : ( انْفَعَلَ ) فيتعين أنه : ( فعْلانٌ ) من الإنس ، ولو كان مُشتقاً من : ( نَسيَ ) لكان : ( نسْياناً ) لا إنساناً .
___________
فلو قال قائل :
لماذا لم تجعله ( إفْعلالاً ) ، وأصله : ( إنْسيان )
كقولهم : ( ليلةُ إضْحيان ) ، ثم حُذفت الياء تخفيفاً ، فصار إنساناً ؟
والجــــــــواب :
أنّ كلام العرب يأبى ذلك ؛ لأنّ حذف الياء بغير سبب ودعوى ليس له نظير في كلامهم ، على أنّ ( النّاس ) ، قد قيل :
إنّ أصله : ( الأناسُ ) ، فحذفت الهمزة ، فقيل : ( الناس )
واسْتُدلَّ على ذلك بقول الشاعر لذي جدَن الحميري :
إنّ المنايا يَطَّلعْـــــــــــــــــ(م) ــــــــن على الأُناس الغافلينا
فيكون : ( أناساً ) ـ فُعَالٌ ولا يجوز فيه غير ذلك البتة .
فإن كان أصلُ ناس ، أُناساً ؛ فهو أقوى الأدلة على أنه من : ( أنْس )
ويكون : الناس ، كالإنسان سواءً في الاشتقاق ، ويكون وزن : ( ناس ) على هذا القول : ( عال ) ، لأنه المحذوفُ فاؤه .
وعلى القول الأول يكون وزنه : ( فعْلٌ ) ؛ لأنه من : ( النَّوْسَ )
وعلى القول الضعيف جداً ، يكون وزنه : ( فلْعٌ ) ، لأنه من : ( نَسيَ ) ، فقلبت لامه إلى موضع العين ، فصار : ناساً ، ووزنه : ( فلْعاً )
**************
وجاء أبو الفتح البُسْتي ، وذكرَ أبياتاَ في المعنى الذي أراده أبو تمام ، أحسنَ وأصحَّ مما ذكره وأراده أبو تمام ـ وقد كان يُكثر التجنيس في شعره ـ
رحمه الله ـ ، فقال :
يا أفضل الناس إفضالاً على الناس ** وأكثرَ الناس إحساناً إلى الناس
نسيْتُ وعدك والنسيانُ مُغـتفرٌ ** فاعـذر فـأول ناس أوَّلُ الناس (2)
****************
ويروى :
وأحسن الناس إغضاءً عن الناسي **
_________________________________
وختاماً لما ذكرناه هنا ، نذكرُ فائدة ً
وهي : أن لفظ الإنسان يُطلق على الرجل والمرأة على السواء ، فيقال :
للرجل إنسان ؛ وللمرأة إنسان ، ولا يقال :
إنسانة بالهاء ، فقد قال أهل اللغة : بالهاء عامية ، وما ذكر في الشعر من ذلك كأنه مُولَّد ، ومن ذلك قول بعضهم :
***********
لقد كستْني في الهوى ** ملابسَ الصَّبّ الغَزلْ
إنســــانةٌ فتــــانةٌ ** بدْرُ الدُّجى منها خَجلْ
إذا زنـتْ عيـني بـها ** فالبـدُمـوع تَـغْتَسلْ
____________________________
(1) ـ انظر لمعاني ( الإنْس ) القاموس المحيط ص : ( 530 ـ 531 ) للقيروز آبادي
(2) ـ أول الناس ،آدم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويُشير بذلك إلى قوله تعالى : { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسيَ ولم نجد له عزماً } .
_________________________
أبو البراء أنور الهجاري
ليبيا / المرج
( حفظها الله بالتوحيد والسنة )